أ - تعريف التبرير:
ليس الإنسان ابنًا للشرير فقط بطبيعته، لكنه أيضًا آثم ومجرم (رو 3: 23؛ 5: 6-10؛
أف 2: 1-3؛ كو 1: 21؛ تي 3: 3). يقبل الإنسان في التجديد حياة جديدة وطبيعة جديدة، وفي التبرير يقبل موقفًا جديدًا ومكانة جديدة. يمكننا تعريف التبرير بأنه عمل الله الذي يعلن فيه كون من يؤمن بالمسيح بارًا. يقول لاد Ladd: “الفكرة الأصلية للتبرير هي إعلان الله، القاضي البار، أن من يؤمن بالمسيح، ومهما كان خاطئًا، يصبح بارًا، ويُنظَر إليه على أنه بار، لأنه في المسيح دخل إلى علاقة بارة مع الله” () التبرير عمل إعلاني. إنه ليس أمرًا معمولاً في الإنسان، بل معلنًا عنه. إنه ليس ما يجعل الإنسان بارًا أو مستقيمًا، بل هو إعلان بر الإنسان. وترتبط بذلك عدة أمور.
1. التخليص من العقوبة. أجرة الخطية موت: روحيًا وجسديًا وأبديًا (تك 2: 17؛ رو 5: 12-14؛
6: 23). لو أن للإنسان أن يخلص فيجب إزاحة هذه العقوبة أولاً. وقد أزيحت هذه العقوبة بواسطة المسيح بموته، فقد حمل عقوبة خطايانا في جسده على الخشبة (إش 53: 5 وما يليها؛ 1بط 2: 24). ومن حيث إنّ المسيح تحمل أجرة خطية الإنسان، فالله الآب الآن يمحوها في حالة ما إذا آمن الإنسان بالمسيح
(أع 13: 38 وما يليها؛ رو 8: 1، 33 وما يليها؛ 2كو 5: 21). هذا هو غفران الخطايا (رو 4: 7؛ أف 1: 7؛ 4: 32؛ كو 2: 13). جعل موت المسيح المغفرة ممكنة، لكنها غير ضرورية، حيث إن المسيح مات طواعية وليس اضطراريًا. ما زال الله هو المعني بتحديد الشروط التي بها ينال الإنسان الغفران. وقد فعل هذا حينما أعلن أنه يغفر للذين يتوبون ويؤمنون بابنه. قال داود: “طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُلٍ لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ” (مز 32: 1-2). “تعني عقيدة التبرير أن الله أعلن القرار بالبراءة في الآخرة لمن له الإيمان في الوقت الحاضر، قبل
الدينونة الأخيرة.” ()
2. استعادة النعمة. لم يتعرض الخاطئ بعد للجزاء فحسب، لكنه أيضًا فَقَد نعمة الله (يو 3: 36؛
رو 1: 18؛ 5: 9؛ غل 2: 16 وما يليها). إنَّ التبرير أكثر من مجرّد البراءة؛ فإزاحة العقوبة شيء، والاستعادة إلى النعمة شيء آخر، فالإنسان المبرر يصبح صديقًا لله (2أخ 20: 7؛ يع 2: 23). لقد أصبح وارثًا لله ووارثًا مع المسيح (رو 8: 16 وما يليها؛ غل 3: 26؛ عب 2: 11).
3. حساب البر. من حيث إن التبرير هو جعل الشخص مستقيمًا وبارًا أمام الناموس (القانون)، فلا يجب مغفرة الخطايا الماضية فقط للخاطئ، بل أن يُقدَّم له برًا إيجابيًا قبل إمكانيّة أن تكون له شركة مع الله. هذا الاحتياج مُقدَّم في حساب بر المسيح للمؤمن. طلب بولس من فليمون أن يحسب عليه دين أنسيمس (فل 18). ويوضح داود قائلاً: “طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية” (مز 32: 2)، ويقول بولس عن هذه الآية: “كَمَا يَقُولُ دَاوُدُ أَيْضًا فِي تَطْوِيبِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَحْسِبُ لَهُ اللهُ بِرًّا بِدُونِ أَعْمَالٍ”
(رو 4: 6). كيف يمكن أن يفعل الله هذا؟ بأن يحسب للإنسان المؤمن بر المسيح. “لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ” (2كو 5: 21). إن المسيح “صار لنا حكمة من الله وبرًا وقداسة وفداء” (1كو 1: 30). بر الله هذا معلن عنه في الإنجيل، وأنه من إيمان لإيمان (رو 1: 17). علينا أن نلاحظ أن هذه ليست صفة البر التي لله، لأن إيماننا لا يتعلق بهذا، بل بالبر الذي يقدمه الله لمن يؤمن بالمسيح. هكذا، فإن الله يستعيدنا إلى النعمة بأن يحسب لنا بر المسيح. هذا هو ثوب العرس المتوفر لكل من يقبل الدعوة إلى العرس (مت 22: 11 وما يليها؛ قارن مع لو 15: 22-24).
إنَّ الشخص المبرَّر، بالتالي، غُفرت له خطاياه، وأزيحت عقوبة خطاياه عنه، كما أنه استُعيد لنعمة الله بأن حُسِب له برّ المسيح. لكنه ما زال غير بار في ذاته مع أنَّ الصفة اليونانية dikaios تستخدم أحيانًا لوصف سلوك بار، لكنه بار بالمعنى الشرعي أو العدلي، ومن وجهة النظر القانونية. تُعرّف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية التبرير على أنه غفران الخطية وسكب عادات جديدة للنعمة. وهكذا يتم التعامل مع التبرير على أنه تجربة ذاتية وليس كعلاقة موضوعية. أما الإصلاحيون فقد أصروا على عكس ذلك. لقد أصروا على أن التبرير يختلف عن التقديس، لأن التبرير هو عمل إعلاني يُبيِّن علاقة الخاطئ بناموس الله وعدله، أما التقديس فعمل فعال يُغيِّر الشخصية الداخلية للخاطئ. وهناك أدلة كثيرة من كلمة الله على أن هذا هو الرأي الصحيح.
ب – طريقة التبرير
منذ زمن أيوب، نرى الإنسان يطرح هذا السؤال: “فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ عِنْدَ اللهِ وَكَيْفَ يَزْكُو مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ؟” (أي 25: 4).
يتوسل كاتب المزمور إلى الله قائلاً: “وَلاَ تَدْخُلْ فِي الْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ” (مز 143: 2). من الجيد أن الساعين إلى الله في العهد القديم لم ينتظروا حتى ولد بولس ليجدوا إجابة عن سؤالهم. يذكرنا بولس أن إبراهيم تبرر بالإيمان من قبل أن يختن بأربع عشرة سنة (رو 4: 1-5، 9-12؛ قارن مع تك 15: 6؛ 16: 15 وما يليها؛ 17: 23-26)، وأن داود ابتهج بحقيقة البر المحسوب (رو 4: 6-8). ليست عقيدة العهد الجديد حول التبرير أمرًا جديدًا، بل حقًا عرف من قبل في زمن العهد القديم، وقد تم الحصول على البر بنفس الطريقة في تلك الأزمنة كما هي في تدبير العهد الجديد. ما هي طريقة التبرير؟
1. ليس بأعمال الناموس. سلبيًا، نقول إن التبرير لا يتم بأعمال الناموس. صحيح أنّ يسوع أشار للشاب الغني إلى الناموس عندما سأل عن كيف يرث الحياة الأبدية (مر 10: 17-22)، لكن من الثابت أنه فعل ذلك ببساطة لكي يُثبت للشاب أن الخلاص غير ممكن على هذا الأساس. مَن يريد أن يخلص بالأعمال يجب أن يحقق كل ما هو مكتوب في الناموس (غل 3: 10؛ يع 2: 10). ولم يستطع أي شخص أن يفعل هذا ولن يستطيع أحد أن يفعله. يعلن بولس أنه بأعمال الناموس لا يتبرر أي ذي جسد أمامه (رو 3: 20؛ غل 2: 16). يعمل الناموس فقط على كشف الخطية (رو 3: 20؛ 7: 7) ويحث النفس التي تتبكت على الهروب إلى المسيح (غل 3: 24). في مناسبة أخرى، علّم يسوع أن “عمل الله” هو أن “تؤمنوا بالذي أرسله” (يو 6: 29). لا يخلص الناس عن طريق القيام بأفضل ما في وسعهم، إلا إذا كان هذا العمل هو الإيمان بالرب يسوع.
2. إنه بنعمة الله. يمكن هنا اقتباس آيتين: “مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” (رو 3: 24)، و”حَتَّى إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ نَصِيرُ وَرَثَةً حَسَبَ رَجَاءِ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ” (تي 3: 7). تشير هاتان الآيتان إلى مصدر تبريرنا. ليس بأعمال بِرٍّ عملناها، بل بحسب نعمته خَلَّصنا (تي 3: 5؛ قارن مع أف 2: 4 وما يليها، 8). وهكذا ينشأ التبرير في قلب الله، إدراكًا ليس فقط لافتقارنا إلى البر، بل أيضًا لعدم قدرتنا على الحصول عليه، قرر الله برحمته أن يقدم لنا برًا. إنها نعمته التي قادته إلى إعطائنا هذا البر، فلم يكن مضطرًا لأن يفعل ذلك مطلقًا. في نعمته نظر بعين الاعتبار إلى ذنوبنا، وفي رحمته نظر إلى بؤسنا.
3. إنه بدم المسيح. لا يخلص المؤمن بالنعمة الإلهية فقط، بل أيضًا بدم المسيح. كتب بولس: “فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ” (رو 5: 9). كما يقول الكتاب المقدَّس أيضًا: “وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيبًا يَتَطَهَّرُ حَسَبَ النَّامُوسِ بِالدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!”
(عب 9: 22)، يبين هذا أساس تبريرنا. لأن المسيح حمل عقاب خطايانا في جسده، استطاع الله أن يمحو عقابنا ويستعيدنا إلى نعمته. في التبرير لا يتم التماس العذر لخطايانا، بل العقاب في شخص المسيح، البديل عنا. إن قيامة المسيح دليل على أن موته على الصليب قد أرضى عدل الله وادعاءه ضدنا (رو 4: 25؛ 1يو 2: 2). أما عطية الروح القدس فهي دليل آخر. “اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ” (رو 8: 16؛ قارن مع غل 4: 5 وما يليها).
4. إنه بالإيمان. يقول الكتاب المقدَّس: “فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (رو 5: 1)، و”لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ” (رو 10: 10)، كما يوضح فيما بعد: “إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا” (غل 2: 16؛ قارن مع أع 13: 38 وما يليها؛ رو 3: 28؛ غل 3: 8، 24). هذا هو شرط تبريرنا، وليس الأساس الاستحقاقي له. “إذا كان هذا هو الحال، فيجب أن يُنظَر إلى الإيمان كعمل استحقاقي من جانب الإنسان” (). عارض الرسول باستمرار فكرة التبرير بالأعمال (رو 3: 27 وما يليها؛
غل 2: 16). نحن لا نخلص من أجل الإيمان، بل بالإيمان، فليس الإيمان هو ثمن التبرير، بل الوسيلة للحصول عليه. من الثابت أن قديسي العهد القديم تبرروا أيضًا مثل مؤمني العهد الجديد (أع 13: 38 وما يليها؛ رو 4: 5-12؛ غل 3: 8).
ج – نتائج التبرير
يمكن تلخيص ذلك هكذا: (1) هناك إزاحة للعقاب (رو 4: 7 وما يليها؛ 2كو 5: 19). زالت الدينونة (رو 8: 1، 33 وما يليها)، وأصبح هناك سلام مع الله (رو 5: 1؛ أف 2: 14-17). (2) هناك استعادة إلى نعمة الله (رو 4: 6؛ 1كو 1: 30؛ 2كو 5: 21). (3) هناك حساب لبر المسيح لنا (رو 4: 5). والآن يلبس المؤمن برًا ليس بره هو، لكنه معطى له بالمسيح، وبالتالي هو مقبول إلى شركة مع الله.
(4) هناك ميراث. يقول بولس: “حَتَّى إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ نَصِيرُ وَرَثَةً حَسَبَ رَجَاءِ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ”
(تي 3: 7). (5) هناك أيضًا نتيجة مباشرة في الحياة العملية، فالتبرير يؤدي لحياة البر. يُعلِّمنا الكتاب المقدَّس: “مَمْلُوئِينَ مِنْ ثَمَرِ الْبِرِّ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِمَجْدِ اللهِ وَحَمْدِهِ” (في 1: 11). يكتب يوحنا: “أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. مَنْ يَفْعَلُ الْبِرَّ فَهُوَ بَارٌّ، كَمَا أَنَّ ذَاكَ بَارٌّ” (1يو 3: 7). هذا ما يؤكده يعقوب، إنه إذ يهتم الإنسان بهذا الإيمان فإنه يثمر عن أعمال، وهذا ما يسميه الإيمان الحي (يع 2: 14-26).
(6) الإنسان المبرر مؤكد أنه سيخلص من غضب الله الآتي (رو 5: 9؛ 1تس 1: 10). (7) من المؤكد أيضًا أنه سيتمتع بالتمجيد (مت 13: 43؛ رو 8: 30؛ غل 5: 5). هذه النتائج مرتبطة ارتباطًا
مباشرًا بالتبرير.