أ – أهمية الإيمان
يعلن الكتاب المقدَّس أننا نَخلُص بالإيمان (أع 16: 31؛ رو 5: 1؛ 9: 30-32؛ أف 2: 8)، ونمتلئ بالروح بالإيمان (غل 3: 5، 14)، ونتقدَّس بالإيمان (أع 15: 9؛ 26: 18)، ونُحفظ بالإيمان
(رو 11: 20؛ 2كو 1: 24؛ 1بط 1: 5؛ 1يو 5: 4)، ونأمن بالإيمان (إش 7: 9)، ونُشفى بالإيمان
(أع 14: 9؛ يع 5: 15)؛ إننا نسير بالإيمان (2كو 5: 7)، ونتغلَّب على الصعاب بالإيمان (مر 9: 23؛
رو 4: 18-21؛ عب 11: 32-40). يعلن الله أن الإيمان ضروري لإرضائه (عب 11: 6) ويتحدث عن عدم الإيمان كخطية كبرى (يو 16: 9؛ رو 14: 23)، وأنه كما لو كان وضع حدود لإظهارات قوته
(مر 6: 5 وما يليها). يجعلنا الإيمان بركة مستمرة للآخرين (يو 7: 38)، إنه يقودنا لأن نبذل الجهد من أجل الآخرين (مر 2: 3-5)، وهو ينتج صبرا ًفي الخدمة (مت 15: 28)، ويأتي بالمساعدة للآخرين (أع 27: 24 وما يليها). وبالتأكيد تكشف هذه الفوائد عن أهمية الإيمان.
ب – معنى الإيمان
لنميِّز الآن بين عدد من التعبيرات التي تختلط ببعضها أحيانًا. مثل هذه التعبيرات هي: التصديق، والرجاء، والإيمان (معرفًا)، وإيمان. إن كلمة “تصديق” عادة ما تستخدم بنفس المعنى مثل كلمة “إيمان”، لكن في أحيان كثيرة تشير إلى عنصر واحد من عناصر “الإيمان”، وبالتحديد هو العنصر الفكري. يجب أن نحترس من سوء استخدام هذا التعبير. يرتبط الرجاء حصريًا بالمستقبل، بينما يرتبط الإيمان بالماضي، وبالحاضر، وبالمستقبل. يُعرَّف الرجاء على أنه رغبة زائدة في التوقع، إلا أن الرجاء كما في الكتاب المقدَّس يتضمن أيضًا عنصرَي المعرفة والضمان. إنه يعتمد على الحق المعلن في الكتاب المقدَّس. بـ”الإيمان” (معرَّفًا) نعني كل العقيدة المسيحية كما هي في الكتاب المقدَّس (لو 18: 8؛ أع 6: 7؛ 1تي 4: 1؛ 6: 10؛ يه 3). الثقة هي كلمة مميزة في العهد القديم تقابل في العهد الجديد كلمة “تصديق” أو “إيمان”. ما هو الإيمان إذًا؟ ليس من السهل إيجاد تعريف بسيط ومناسب للتحول أو التغيير. الإيمان هو تحول النفس إلى الله، كما أن التوبة هي تحول النفس عن الخطية. قد نقول إن الكتاب المقدَّس يُقدِّم الإيمان على أنه عمل قلبي، وبالتالي يتضمن تغييرًا فكريًا، ووجدانيًا، وإراديًا. يؤمن الناس بقلوبهم أنهم يخلصون
(رو 10: 9 وما يليها). يؤكد الكتاب المقدَّس على الجانب الفكري للإيمان في هذه النصوص
(مز 9: 10؛ يو 2: 23 وما يليها؛ رو 10: 14). كان لنيقوديموس إيمان بهذا المعنى للكلمة عندما جاء إلى يسوع (يو 3: 2)، ونحن نعرف أن الشياطين يؤمنون لأنهم يعرفون الحقائق المتعلقة بالله
(يع 2: 19). لا شك، أنَّ إيمان سيمون الساحر كان بهذا المعنى (أع 8: 13)، لأنه لا توجد إشارة على أنه تاب وقَبِل المسيح. ولهذا نستنتج أن الإيمان يجب أن يكون أكثر من مجرد تصديق فكري. لنتأمل الآن الثلاثة الجوانب الضرورية للإيمان.
1. الجانب الفكري. يتضمن هذا الجانب تصديقًا لإعلان الله في الطبيعة وفي الحقائق التاريخية للكتاب المقدَّس، وفي العقائد المحتواة هنا فيما يتعلق بخطية الإنسان، وفي الفداء الذي في المسيح، وفي شروط الخلاص، وفي كل البركات الموعود بها لأولاد الله. بينما يستهان بهذا العنصر كثيرًا في أيامنا هذه، إلا أنه أساسي لمقومات الإيمان الأخرى. يقول بولس: “إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ” (رو 10: 17). نحتاج أن نعرف أنه يوجد إله، ولهذا، نؤمن بوجوده (رو 1: 19 وما يليها)؛ نحتاج أن نعرف الإنجيل، لكي نؤمن بالمسيح (رو 10: 14). الإيمان الكتابي، بالتالي، ليس هو قبول افتراض عامل في الدين، بل هو إيمان (تصديق) يعتمد على أفضل الأدلة. يكتب كاتب المزمور: “وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ الْعَارِفُونَ اسْمَكَ. لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ”
(مز 9: 10).
2. الجانب الوجداني. هذا الجانب ينال تركيزًا في بعض النصوص مثل مز 106: 12-13 “فَآمَنُوا بِكَلاَمِهِ. غَنُّوا بِتَسْبِيحِهِ. أَسْرَعُوا فَنَسُوا أَعْمَالَهُ. لَمْ يَنْتَظِرُوا مَشُورَتَهُ”؛ ومت 13: 20-21؛ “وَالْمَزْرُوعُ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ، وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ”؛ ويو 8: 30 وما يليها حيث يميز الكاتب بين الكثيرين الذين آمنوا به والذين آمنوا به ببساطة. قارن أيضًا تصديق الكاتب لما قاله يسوع فيما يخص الوصية العظمى دون قبوله كمخلص (مر 12: 32-34)، ويوحنا 5: 35، “كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً”. كل هذه الآيات تعلن عن قبول جزئي ومؤقت لحق الله، في مقابل القبول الكامل لرسالته ومسيحه.
يمكننا تعريف العنصر الوجداني للإيمان على أنه صحوة النفس لاحتياجاتها الشخصية وللتطبيق العملي الشخصي للفداء الذي يقدمه المسيح، مع تصديق فوري لهذا الحق. لكن لا يجب التوقف عند هذا الحد، لأنه بينما يجب الاعتراف بالعنصر الوجداني كجانب من جوانب الإيمان، لا يجب تناوله كما لو كان الخاصية الوحيدة للإيمان.
3. الجانب الإرادي. هذا الجانب من عناصر الإيمان هو النمو الخارجي للجانبين الفكري والوجداني. لو أن إنسانًا قَبِل إعلان الله وخلاصه كحق، ثم وصل إلى تصديق إمكانية تطبيقه على نفسه بصفة شخصية، فيجب أن يكمل بطريقة منطقية لقبوله لنفسه. كل تعبير سابق يؤدي بطريقة منطقية لما يليه، ولا يخلص الإنسان إلا إذا توفر في إيمانه هذه الجوانب الثلاثة. إن الجانب الإرادي مع ذلك، شامل جدًا حتى إنه يستلزم العاملَين الآخرين. بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يخلص ما لم يقبل المسيح إراديًا، ولا يمكن لأحد أن يحصل على إجابة لصلاة ما لم يؤمن بوعود الله
من كل قلبه.
يشمل العنصر الإرادي تسليم القلب لله وقبول المسيح كمُخلِّص. الأول يظهر في هذه النصوص الكتابية: “يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي” (أم 23: 26)، و”تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ” (مت 11: 28 و29)، و”إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ
يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا” (لو 14: 26). إن استخدام التعبير اليوناني Pisteuo (أن تصدِّق أو تثق) بمعنى تسليم أو إخضاع يمكن رؤيته في عبارات مثل: “لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ”
(يو 2: 24)؛ و”فَلأَنَّهُمُ اسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ اللهِ” (رو 3: 2)، و”بَلْ بِالْعَكْسِ، إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ” (غل 2: 7). يؤكد الكتاب المقدَّس كثيرًا على أن الإنسان يجب أن يحسب النفقة قبل أن يقرر أن يتبع المسيح (مت 8: 19-22؛ لو 14: 26: 33). تتضح فكرة التسليم أيضًا في الحث على قبول يسوع كرب. والوصية هي: “آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ”
(أع 16: 31)، ويجب أن نعترف بأن “يسوع رب” (رو 10: 9) لكي نخلص. ولكي نؤمن به كرب يجب أن نعترف به كرب، ولا يمكن أن نعترف به كرب دون أن نتواضع نحن أنفسنا. هذه الملاحظة عن الإيمان عادة ما ينظر إليها أو حتى تشير إلى زمن لاحق للتكريس، إلا أن الكتاب المقدَّس يربطها باختبار الخلاص الأولي.
إن قبول المسيح كمخلص، هو موضوع تعليم متكرر في الكتاب المقدَّس: “وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ” (يو 1: 12)، “وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ” (يو 4: 14)، “فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ”
(يو 6: 53-54)؛ “هَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي” (رؤ 3: 20).
ج – مصدر الإيمان
كما هي الحال في التوبة، هناك جانب إلهي وآخر إنساني للإيمان.
1. الجانب الإلهي. يتحدث كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن يسوع على أنه: “رئيس الإيمان ومكمِّله” (عب 12: 2). ومن الواضح أن الإيمان هو عطية من الله (رو 12: 3؛ 2بط 1: 1)، وهو يُعطى بطريقة سيادية بواسطة روح الله (1كو 12: 9؛ قارن مع غل 5: 22). يتحدث بولس عن الخلاص ككل كعطية من الله (أف 2: 8)، وبالتأكيد هذا يتضمن الإيمان.
2. الجانب الإنساني. كلٌّ من كلمتَي الله المكتوبة والمنطوقة تُنتج إيمانًا. يقول الكتاب المقدَّس: “إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ” (رو 10: 17)، “وَكَثِيرُونَ مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا الْكَلِمَةَ آمَنُوا وَصَارَ عَدَدُ الرِّجَالِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفٍ” (أع 4: 4). ليست كلمة الله فقط وسيلة للإيمان، بل الصلاة أيضًا كذلك
(مر 9: 24؛ لو 22: 32). طلب التلاميذ من الرب: “زِدْ إِيمَانَنَا!” (لو 17: 5). وكذلك إن ممارستنا الإيمان الذي لنا، ستكون وسيلة بها ينمو إيماننا (مت 25: 29؛ قارن مع قض 6: 14).
د – نتائج الإيمان
إنَّ نتائج الإيمان متعددة.
1. الخلاص. خلاصنا بكامله يعتمد على الإيمان، فمن البداية حتى النهاية نحن مُخلَّصون بالإيمان، وهذا هو التبرير (رو 5: 1)، أو التبني (غل 3: 5، 14؛ 4: 5 وما يليها)، أو التقديس
(أع 26: 18). يخبرنا بطرس أننا: “بقوة الله محروسون” (1بط 1: 5).
2. الضمان (اليقين). حقيقي أن الضمان (اليقين) يأتي بشهادة الروح القدس (رو 8: 16؛
1يو 3: 24؛ 4: 13)، لكن، مع هذا، فإن الله يُرجع النفس إلى الوعود التي في كلمة الله، ويأتي اليقين عندما نؤمن بها. ويرتبط السلام باليقين ارتباطًا شديدًا (إش 26: 3؛ رو 5: 1) وبالراحة (عب 4: 3)؛ مع الفرح الناتج عن ذلك (1بط 1: 8).
3. الأعمال الصالحة. يؤدي الإيمان بالضرورة إلى الأعمال الصالحة. إننا ننال الخلاص بعيدًا عن الأعمال الصالحة (رو 3: 20؛ أف 2: 9)، ولكن “لأعمال صالحة” (أف 2: 10). قال يسوع: “فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ”
(مت 5: 16). ويؤكد يعقوب أن الإيمان يظهر في “أعمال” (يع 2: 17-26). ويؤكد بولس عدم كفاية أعمال الناموس (غل 2: 16؛ 3: 10)؛ لكنه يؤكِّد أيضًا أن “الأعمال” هي ناتج الإيمان (تي 1: 16؛
2: 14؛ 3: 8). هذه الأعمال الصالحة هي ثمر الروح (غل 5: 22-23؛ أف 5: 9).