أرشد الروح القدس وراقب كُتَّاب النصوص المقدَّسة، مستخدمًا شخصياتهم الفريدة، حتى إنهم كتبوا كل ما أرادهم أن يكتبوه، دون زيادة أو خطأ. ويجب ملاحظة عدة أشياء: (1) يتعذر تفسير الوحي. إنه عمل الروح القدس، إلا أننا لا نعرف بالضبط كيف تعمل قوة الروح القدس هذه. (2) الوحي، بهذا المعنى المحدود، يكون محدودًا بكتّاب الأسفار المقدَّسة. الكتب الأخرى لا يوحى بها بنفس المعنى.
(3) الوحي بالضرورة إرشاد. أي أن الروح القدس أشرف على اختيار المواد المستخدمة والكلمات الموظفة في الكتابة. (4) حفظ الروح القدس الكتّاب من كل خطأ ومن كل حذف. (5) يمتد الوحي إلى الكلمات، ليس فقط للأفكار والمفاهيم. لهذا، نتكلم عن وحي الكتاب المقدَّس الكامل واللفظي؛ إنه كامل لأن الوحي شامل وخال من القيود، بمعنى أنه يتضمن كل أسفار الكتاب المقدَّس
(2تي 3: 16)؛ ولفظي، لأنه يتضمن كل كلمة (1كو 2: 13). (6) يثبت الوحي فقط بمخطوطات الكتاب المقدَّس الأصلية، وليس بأي من الطبعات، قديمة كانت أم حديثة، ولا بأي نسخة بخط اليد عبرية أو يونانية ما زالت موجودة، ولا بأي نص نقدي معروف. كل هذه إما أن تكون معروفة بأنها مخطئة في بعض الجوانب، أو غير مؤكدة يقينيًا بأنها خالية من كل خطأ. بينما لا توجد أية مخطوطات أصلية، فإن عدد الكلمات المشكوك فيها ما زال ضئيلاً جدًا، ولا تتأثر بها أية عقيدة.
يجب أن نقول كلمة في مسالة التمييز بين الوحي والسلطان. عادة ما يتشابه الاثنان، حتى إن ما يوحى به يكون موثوقًا بما فيه من سلطان للتعليم والعمل، ولكن أحيانًا لا يكون الحال هكذا. على سبيل المثال، إن ما قاله الشيطان لحواء سجله الوحي إلا أنه ليس حقيقيًا (تك 3: 4). يمكن قول نفس الشيء عند نصيحة بطرس للمسيح (مت 16: 22)، وما أعلنه غمالائيل للمجمع (أع 5: 38).
ومن حيث أنّ أيًّا من هذه يمثِّل فكر الله، فهي ليست حقائق ذات سلطان، مع أنَّها موجودة في الكتاب المقدَّس. يمكن قول الشيء نفسه عن النصوص المأخوذة خارج سياقها وأعطيت معنى مختلفًا تمامًا عن المعنى المعروف لها في سياقها. ما زالت الكلمات موحى بها، إلا أن المعنى الجديد ليس محل ثقة. يجب النظر إلى كل كلمة وعبارة على أنها موحى بها وموثوق بها معًا، إلا إذا كانت هناك إشارة ما في السياق إلى أن هذا الأخير ليس هو الحال في المثال المعيَّن.
2. براهين الوحي
هناك أمران جوهريان عليهما نبني نظرية الوحي اللفظي الكامل: شخصية الله، وصفات وادعاءات الكتاب المقدَّس عن نفسه.
أ – شخصية الله
إن وجود الله ثابت على أساس حقيقة أنه أعلن عن نفسه، وقد أُثبت هذا الأمر أيضًا بواسطة براهين مختلفة على وجوده. في دراسة ذلك الإعلان وتلك البراهين، اكتشفنا بالفعل بعضًا من صفاته المميزة. وبقي أن ندرس أشياء مختلفة عن طبيعته، لكننا قد رأينا فعلاً أنه إله شخصي، قدير، قدوس، ومحب.
لو أن الله فيه كل هذه الصفات، فسنتوقع أن يكون لديه اهتمام مليء بالمحبة بخليقته ويأتي لمساعدتهم. ولأن له هذا الاهتمام ويأتي لمعونة الإنسان فهذا دليل جوده على الإنسان باحتياجاته المادية والوقتية. لقد ملأ الأرض بالمعادن والوقود؛ ووفر جوًا يستطيع الإنسان أن يعيش فيه؛ وجعل الأرض خصبة، وأمدنا بأشعة الشمس والمطر، وبالبرد والجليد، كما أعطى الإنسان فهمًا للطرق التي بها يسدد احتياجاته بهذه الأشياء. إلا أن الإنسان لديه أيضًا احتياجات روحية وأبدية. لديه مشكلة الخطية، ولا شيء في الطبيعة أو الضمير يخبره بالمعيار الأخلاقي الحقيقي للحياة، ولا شيء يبين له كيف يكون بارًا أمام الله. يشعر الإنسان بأنّه خالد ويتساءل عما يمكنه عمله للإعداد للأبدية.
أليس الله، الذي يمده بغنى بكل ما يحتاج إليه في الأرض، يمكنه أن يمده أيضًا باحتياجاته العليا؟ يبدو أن الإجابة يجب أن تكون “نعم” بالتأكيد. الله وهو هكذا، والإنسان واحتياجاته كما ذكرنا، يجعلان من المتوقع أن الله يضع معاييره وخطته للخلاص على نحو معروف. وإن جعل ذلك معروفًا، فهل يتركها لتعبيرات غير يقينية وخاطئة؟ صحيح أن الله يستخدم الناس، المفديين، رغم كونهم خطاة كخدام للمصالحة (2كو 5: 18-20). إلا أننا، كمخلَّصين رغم خطايانا، نحتاج أن نعلن الكلمة المعصومة. أعطانا إله كل حق كلمة موثوقًا بها، خالية من الخطأ لكي نؤمن بها ونعلنها. يكتب شَدّ:
من غير المحتمل أن يعلن الله حقيقة أو عقيدة لعقل الإنسان، ولا يعمل شيئًا من أجل تأمين تأكيد لها. هذه بالضبط هي الحال، عندما تكون العقيدة أحد أسرار الدين. إنّ حقًّا عميقًا، مثل عقيدة الثالوث، والتجسُّد، وكفارة المسيح النيابية، وغيرها، تتطلب مراقبة وإرشادًا غير عاديَّين من الروح المعصوم لتأمين إعلان لا يقود إلى أي خطأ. ومن حيث إنه من الطبيعي بدرجة أكثر أن نفترض أن نبيًا أو رسولاً قد تسلم من الله، بطريقة مباشرة، حقًا عميقًا وغامضًا لا يمكن أن يصل إليه الإنسان بفكره، لن يُترك لقدرته دون مساعدة لكي ينقل ما تسلّمه. ومن غير المحتمل بصفة خاصة أن تخفى الرسالة الآتية من الله في زي من الخرافات والأساطير المتطرفة.()
ب – صفات وإعلانات الكتاب المقدَّس
يتفوق الكتاب المقدَّس على كل الكتب الدينية الأخرى في محتواه. إنه يضع أعلى المستويات أخلاقية ويأمر بطاعة مطلقة، ويستنكر جميع أشكال الخطية، ومع ذلك فهو يُعلِّم الخاطئ كيف يكون بارًا أمام الله. فكيف لإنسان لم يتسلَّم وحيًا أن يكتب كتابًا مثل هذا؟ يعرض الكتاب المقدَّس وحدة لافتة للنظر. ومع أنَّه استغرق زمنًا يقرب من 1600 سنة، واحتاج لأكثر من أربعين كاتبًا ليكتبوا 66 سفرًا، هي التي يتكوَّن منها الكتاب المقدَّس، إلاّ أنّه يبقى في واقع الأمر كتابًا واحدًا. له وجهة نظر عقائدية واحدة، ومعيار أخلاقي واحد، وخطة واحدة للخلاص، وبرنامج واحد لكل العصور، ونظرة واحدة للعالم. تتضح خصوصية شريعة موسى في ضوء الإعلان المستمر. الناموس والنعمة وعقيدة الروح القدس ترتبط معًا بالقصد التدبيري لله. إن ترتيبات الحلفاء القريبين للعناصر السياسية والدينية لنظام الحكم اليهودي، قصد بها أن تكون مؤقتة، ولم يقصد بها الحاضر. في كل هذا توجد خطة وقصد. لا تقدّم كتبٌ مقدّسة أخرى مثل هذه الوحدة العضوية التي نجدها في الكتاب المقدّس.
إنه يعلن أنه كلمة الله. لو أن إنسانًا أو كتابًا يتكلم بالحق في كل الأمور الأخرى، فعلينا أن نسمح لهم أيضًا بأن يتكلموا عن أنفسهم. يتكلم الكتاب المقدَّس بالحق في الأمور الأخرى، ويعلن عن نفسه بإعلانات معينة. تظهر هذه الإعلانات بطرق مختلفة:
(1) يستخدم كتّاب العهد القديم تعبير “هكذا يقول الرب” أو “وجاءت كلمة الرب إلى … فلان من الناس”، أو “قال الرب” وغير ذلك بنفس المعنى أكثر من 3800 مرة. (2) يستخدم كتّاب العهد الجديد تعبيرات مثل: “يوضح لكم قصد الله الكامل”، أو “بكلمات علمها الروح” أو “الذي هو كلمة الله” أو “وصية الرب”. (3) ويعلن العديد من الكتّاب الكمال المطلق والسلطان الذي للناموس والشهادة (تث 27: 26؛ 2مل 17: 13؛ مز 19: 7؛ 33: 4؛ 119: 89؛ إش 8: 20؛ غل 3: 10؛ 1بط 2: 23). (4) ويعترف سفر بسفر آخر عندما يتحدث عن النهاية المطلقة (يش 1: 7؛ 8: 31؛ عز 3: 2؛ نح 8: 1؛
دا 9: 2، 11، 13؛ زك 7: 12؛ ملا 4: 4؛ أع 1: 16؛ 28: 5؛ 1بط 1: 10). (5) يضع بطرس رسائل بولس على نفس المستوى مع “بقية الأسفار المقدَّسة” (2بط 3: 15). (6) يعلن بولس أن كل العهد القديم موحى به (2تي 3: 16). ويكتب بطرس: “عَالِمِينَ هَذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ… الروح القدس” (2بط 1: 20 و21).
لنلاحظ أيضًا نظرة الرب إلى الوحي. قال الرب يسوع المسيح: “لا يمكن أن ينقض المكتوب”
(يو 10: 35). وفي كل الثلاثة الأجزاء الخاصة بالعهد القديم؛ “كتب موسى، وكتب الأنبياء، والمزامير” يوجد تعليم تختص به (لو 24: 44؛ قارن مع آية 27). قال المسيح أيضًا إنه جاء لا لينقض الناموس، بل ليكمله (مت 5: 17)؛ وبيّن مفهومه عن الوحي بقوله: “إلى أن تزول السماوات والأرض، لا يزول حرف واحد من الناموس، حتى يكمل الكل” (مت 5: 18؛ قارن مع لو 16: 17). هذا يعني أنه آمن بالوحي اللفظي للناموس. “الناموس” هنا، بلا شك يتضمن كل العهد القديم.
وأكثر من ذلك، أظهر يسوع بعض التوقعات العظيمة التي تختص بحفظ وتفسير الحقائق المرتبطة به وبرسالته. وقبل أن يصعد أخبر التلاميذ أن الروح القدس سيجعلهم معلمين متميزين للحق. هذا الروح، كما قال يسوع، سيفعل ذلك عندما يحل عليهم بتعليمهم كل شيء، وتذكيرهم بكل ما قاله لهم، وإرشادهم إلى كل الحق، وبأن سيريهم الأمور الآتية (يو 14: 26؛ 16: 13).
اتفقت هذه الوعود والحقائق المتصلة بحياة المسيح على الأرض، وخبرات التلاميذ الأولين، والعقائد المتضمنة في الرسائل، والتوقعات والنبوءات المذكورة في سفر الرؤيا. وأعلن الرسل أنهم قبلوا هذا الروح (أع 2: 4؛ 9: 17؛ 1كو 2: 10-12؛ 7: 40؛ يع 4: 5؛ 1يو 3: 24؛ يه 19)، وتكلموا تحت تأثيره وسلطانه (أع 2: 4؛ 4: 8، 31؛ 13: 9؛ 1كو 2: 13؛ 14: 37؛ غل 1: 1، 12؛ 1تس 2: 13؛
4: 2، 8؛ 1بط 1: 12؛ 1يو 5: 10؛ رؤ 21: 5؛ 22: 6، 18). لهذا يمكن أن نفهم أن ربنا يضمن وحي العهد الجديد أيضًا.